جريدة الرياض - 10/31/2025 1:04:06 AM - GMT (+3 )
 
                
            
             الحديث والكتابة عن الأسخياء الكرام والأجواد والذين يقدسون العطاء ويبذلون وينفقون ليلاً ونهاراً وسراً وعلانية لهو من أحب الكلم وأعذبه وأحلاه، فهو الحديث الشيق الممتع المفيد والمطرب، بل هو محبب إلى كل نفس سمحة طاهرة نقية سليمة من البخل والشح.
هذه النفوس التي طبعها الله على الندى والشهامة والمروءة وأصبحت هذه الفضائل والخصال والمكارم تجري في دمائها وكأنها الرئتان التي يتنفس بها، وهل يقدر أحد من البشر أن يستغنى عن الهواء ولو لحظات أو ثوان، فكذلك هؤلاء الذين كانوا صفوة من البشر ونخبة من الأنام وطليعة من الناس وبعضهم قد لا يملك الأموال والثروات الطائلة، لكن الله -عز وجل- بارك الله فيما أعطاهم وفيما يسعون إليه من الشفاعات عند ذوي الثراء، فكلما طرق أبوابهم لمساعدة محتاج قبلت شفاعتهم بدون تردد أو سؤال، فهم أشخاص مباركون، ولعل ذلك يرجع إلى حسن نياتهم وإخلاصهم، ومن هؤلاء الخلص الأسخياء ذوي المروءات الوجيه الشهم الكريم الجواد محمد بن أحمد الصانع -رحمه الله- الذي كتبت عنه كلاماً موجزاً حينما أفردت لوالده المعلم والأستاذ أحمد الصانع -رحمه الله- تقريراً كاملاً، فهو من أسرة فاضلة كريمة نابهة، ويكفي أن والده كان ذا عطاء عظيم وجليل، ألا وهو عطاء التعليم والعلم والمعرفة، وأنعم به من عطاء دائم ومثمر، فلئن كان عطاء المال من أجل الصفات، فإن عطاء العلم لا يقل عنه إن لم يكن أفضل منه؛ لأنه به تزول ظلمات الجهل وغياهب الظلم، وكما قال عليه الصلاة والسلام: "بلغوا عني ولو آية"، فمعلم النشء يشمله هذا الحديث؛ لأنه يعلم القرآن الكريم والكتابة والقراءة، فهما مفتاح للعلم والعلوم، وبه يستطيع مواصلة طلب العلم.
وجاهة ورفعة
ومحمد بن أحمد بن بن صالح بن إبراهيم بن أحمد بن ناصر الصانع من أسرة الحمود، وهي ذات وجاهة ورفعة وفضل، ومن هذه الأسرة الوجيه أمير سدير ووكيل بيت المال فيها في عهد الإمام تركي بن عبدالله -رحمهما الله-، يقول المؤرخ النجدي عثمان بن بشر في كتابة (عنوان المجد في تاريخ نجد): في 1240هـ استعمل الإمام تركي في بيت مال سدير أحمد بن ناصر الصانع وكان رجلاً كريماً حليماً جواداً، ومن أوفر أهل زمانه عقلاً وسمتا وكرماً، ثم قال: في 1244هـ عزل ابن عبدان عن إمارة سدير وعيّن أحمد بن ناصر الصانع أميراً ونائباً لبيت المال، وبعدها يرد اسم جد شخصيتنا مرة أخرى في تاريخ ابن بشر قال: توفي 1256هـ أحمد بن ناصر الصانع، وولي بيت المال للإمام تركي وابنه فيصل، وكان غاية في الكرم والسماحة والعقل لا يعرف في زمانه نظير -انتهى كلامه-، ومنذ 1244هـ إلى 1254هـ وهو أمير سدير ووكيل بيت المال، فلديه السلطة الإدارية والسلطة المالية، وهذه دليل الثقة الكبرى من قبل الإمامين تركي بن عبدالله وابنه فيصل.
 أياد بيضاء
وكان والد أمير المجمعة المحسن ناصر الصانع له أياد بيضاء وأعمال خيّرة، فلقد أوضح الكاتب والباحث حمود المزيني أنه بنى مسجداً بالمجمعة 1194م حسب وثيقة كتبها الشيخ محمد بن عثمان بن شبانه، ثم لم يكتف المحسن ناصر الصانع ببناء المسجد بل حفر بئراً وحائطاً للسقيا والوضوء، وأطلق على هذا المسجد ركية ناصر، وقد ذكرت هذا في مقالي عن المعلم والرائد أحمد الصانع وسيرته وجهوده التعليمية والتربوية في المجمعة، وهو والد شخصيتنا -محمد الصانع-، ونوهت في ثنايا المقال بابن عمه المحسن المشهور الباشا أحمد بن عبدالعزيز الصانع الذي يعد هو ووالده الوجيه عبدالعزيز من أثرياء العراق، وكان الباشا أحمد الصانع كثير الصدقات وفاعلاً للخيرات وباذلاً للمبرات، ومحسناً ومتبرعاً بالهبات، فكان آية من آيات الكرم والجود في زمنه، وكان يسارع إلى كل مكرمة، ولا يمكن أن تفوته المكارم والفضائل، هذا فضلاً عن شهامته ومروءته في إصلاح ذات البين، وكذلك الديات.
إتقان وجودة
نعود إلى شخصية الأسبوع محمد الصانع -رحمه الله-، حيث وُلد في حدود 1353هـ بالمجمعة، وتعلم بها، ونال الشهادة الابتدائية، ولم يتمكن من الدراسة على والده؛ لأنه توفي وكان عمره خمسة أعوام، عاش في المجمعة مرحلة الصبا والشباب ثم رحل إلى مدينة الرياض، ولعل ذلك أواسط السبعينات الهجرية، وكان الغرض من الاستقرار بالرياض البحث عن عمل، لاسيما أن العاصمة قد تأسست بها المؤسسات الحكومية، وكان هذا الأمر جالباً لجميع مناطق المملكة بالاتجاه إلى العاصمة، وكذلك افتتحت جامعة الملك سعود 1377هـ، وهي أول جامعة تؤسس في الجزيرة العربية والخليج العربي، وهذا كله عزّز وفود الطلاب من خارج الرياض والخليج العربي، وتهيأت لشخصيتنا وظيفة بقصر الناصرية -قصر الملك سعود- وعمل فيه مدة من الزمن، وتعرف على المستشارين للملك وكبار موظفي الديوان الملكي، وكان عمله مرتبطا بالشؤون الخاصة، وكانت هذه الوظيفة دافعاً له في الحياة العملية وهو إذ ذاك شاب يافع، وكل الذين عرفوه في قصر الناصرية عرفوا عنه والانضباط وأداء ما يكلف به بإتقان وجودة، وكان حازماً كذلك في أموره كلها، لهذا كان مثالاً للموظف المتميز المنضبط الحريص على عمله ودوامه الصباحي والمسائي، وهكذا كان برنامجه اليومي عملا دائما، متواصلا النهار مع الليل، ولم يعرف عنه التقصير والإهمال في هذا العمل الموكل إليه وكان كفؤا وموثوق فيه، وفي 1384هـ استقال من عمله هذا وهنا بدأت الحياة التجارية حتى وفاته -غفر الله له-.
  فندق العاصمة
توجّه محمد الصانع -رحمه الله- في بدايات مشواره التجاري إلى فتح محلات بشارع آل سويلم لكنه لم يوفق وخسر، ثم جاءته فكرة تأسيس فندق، وكانت الفنادق في مدينة الرياض قليلة جداً، وأشهرها فندق اليمامة بشارع الملك عبدالعزيز -المطار قديماً-، وفندق زهرة الشرق، وفندق الرياض، وبقية الفنادق في شارع البطحاء، فما كان منه إلاّ البدء بتأسيس فندق العاصمة، فكان من أوائل رجال الأعمال الذين استثمروا في الفنادق في العاصمة أوائل التسعينات الهجري، أو قبلها بقليل، ومنه حلق في سماء الفندقة، ونال خبرة تجارية في هذا الميدان التجاري، ثم بعد ذلك بدأ يؤسس فنادق أخرى يستأجرها من أصحابها ثم يتولى هو تشغيلها في الرياض، وهي فندق الكرامة، وفندق آسيا، وفندق الديرة، وفندق الستين بشارع صلاح الدين، وفندق العروبة وفندق الخليج، وعرف بذلك واشتهر حتى أن بعض الجهات الحكومية تتعاقد معه في إسكان الضيوف الذين يأتون الرياض، وكان -رحمه الله- يحتفي بهم احتفاء خارج الحساب أو التعاقد الذي بينه وبين الجهة الحكومية، خاصةً إذا كان هؤلاء الضيوف من علية الناس من أعيان وشيوخ للقبائل، فكان يعد لهم الولائم الفاخرة وليمة الغداء ووليمة العشاء، وهذا من سماحة نفسه وعلو كعبه في السخاء والجود، وهذه خصلة لعله انفرد بها من بين ملاك الفنادق، وهذا ما حدثني به أحمد بن صالح الصانع -ابن اخ شخصيتنا-، وفهد وأحمد -أنجال شخصيتنا-، وهذا والله نادرة في الكرم.
بشاشة الوجه
ومحمد الصانع -رحمه الله- إنما أسس هذه الفنادق للتجارة والربح منها، وما يفعله يتناقض مع العمل التجاري، لكنه لا يفكر في هذا مطلقاً، فالتجارة عنده وسيلة للعيش الكريم فقط والاكتفاء بالربح القليل هو المراد، وكان هؤلاء الضيوف قد أحبوه، ولهذا كانوا لا يسكنون إلاّ في فنادقه؛ لأنهم اكتشفوا في مالك هذه الفنادق الندى والسخاء وبشاشة الوجه والكلام الطيب وطيب المعشر وحسن الاستقبال، ومن المواقف التي كانت من مكارم أخلاق شخصيتنا أن أحدهم من المملكة الأردنية الهاشمية جاء إلى أحد الفنادق بالبطحاء، وصادف أن لا يملك ثمن السكن، وكان الغرض العمل، وتحدث صراحة مع محمد الصانع عن حالته المادية، فرحّب به وأسكنه بدون مقابل حتى تم توظيفه من قبل شخصيتنا في أمانة مدينة الرياض، وكان قد سكن في هذا الفندق شهراً كاملاً بدون مقابل، وكان هذا الرجل الأردني لا ينسى هذا الموقف الشهم الدال على مروءة وكرم شخصيتنا، كان الصانع لا يهتم بالماديات والمصالح الشخصية إنما جل همه أن يكون عوناً لكل من لجأ ولاذ به، وكان لا يخذل هؤلاء المكلومين والمستغيثين به، وهكذا الكرام تأبى نفوسهم أن يردوا أحداً مهما كان مستواه من البشر، وهذه النفوس كأنها خلقت من غير طينة البشر.
مساعدة سجين
واستضافنا أحمد بن صالح الصانع في منزله في إحدى الليالي ومعنا نجل شخصيتنا فهد بن محمد الصانع، وكان الحديث عن سيرة شخصيتنا من حيث كرمه ونبله ومروءته، ودخل حديثهما في حديث بعض، وأنا اذكر ما سمعته منهما، ومن هذه المواقف أن محمد الصانع -رحمه الله- كان يصطاف سنوياً في الباحة، وله فيها منزل كبير، وكانت عادته أن يشتري كميات ضخمة من الأرز والشاي والسكر ومواد غذائية أخرى، وكان له مجلس يومي بعد صلاة العصر يستقبل فيه من يعرف ومن لا يعرف، وكل من جاء طالباً مساعدته من هذه المواد الغذائية من الفقراء والمساكين لبى حاجته، وكتب له ورقة صغيرة فيها ما يريد من مواد غذائية للموظف الموكل بهذا الأمر، وحدث مرة أن آتت إليه امرأة تشكوا أن زوجها مسجون بمبلغ مالي كبير، وذكرت كل المعلومات عنه، فما كان من شخصيتنا إلاّ أجرى تحرياته عن الموضوع، وذهب إلى شيخ قبيلة ذلك الرجل، وثبت لديه أن المعلومات صحيحة عن هذا السجين المديون، وكانت هذه المرأة تأتي إلى شخصيتنا بغرض المساعدة الغذائية وسألها أين أبوكم؟، فقالت: في السجن وذكرت له التفاصيل، فسعى في قضاء دينه وساهم بمبلغ منه، وساهم بعض أغنياء مدينة الباحة، وسدد المبلغ وأُطلق سراح هذا السجين، فذهب فوراً إلى شخصيتنا يشكره وقال له: أريد ان أكافئك فماذا تريد؟، فقال شخصيتنا: لا أريد شيئاً مطلقاً، فانظر كيف كانت هذه الأسرة؟، تحتاج إلى المواد الغذائية بعد أن فقدوا عائلهم الوحيد، ولما أراد الله عز وجل تفريج كربته سخر الله لهم هذا الشهم المعطاء.
صدق وأمانة
ومن المواقف كذلك أن محمد الصانع -رحمه الله- يذهب إلى السجون في الرياض سواء السجن العام أو توقيف المرور، ويستفسر عن أهل الدين من أصحاب المبالغ التي ليست ضخمة، فيبادر بتسديدها، وإذا كانت ضخمة سعى عند الأغنياء وأصحاب الثراء بتسديدها، ويُذكر أن تسديد الفواتير من كهرباء ومياه هذه شبه يومياً، فكان مبلغ خمسة آلاف ريال دائماً بحوزته، فإذا جاءته امرأة أو رجل معه هاتين الفاتورتين اطلع عليها ليشاهد المبلغ الإجمالي المستحق على المشترك، فيمنح هذا السائل أو السائلة المبلغ المستحق سواء كان في الرياض أو الباحة، وقد شاهدت ذلك أنا بنفسي في مجلسه العامر بالرياض، المهم أن خمسة آلاف ريال تكون دائماً معه يمنح ويتصدق منها طوال يومه وليلته، رحمه الله ما أجل هذه النفس الى تقدس الصدقات والشفاعات، وفي كثير من الأحيان يذهب بنفسه إلى منازل الفقراء ويتصدق عليهم بما تيسر لا نقول عشرات الأسر بل مئات وكان يتعاهدهم بالمساعدة، أمّا مجال السكن للذين لا يستطيعون شراء مساكن ومنازل لهم فكان الصانع من فرسان هذا الميدان، فهناك أُسر تقدمت إليه وتأكد من أحوالهم، قام هو بنفسه بجاهه إلى الأغنياء، وهم يعرفونه بل هم أصدقاء له، ويعرض حاجة هذه الأسرة إلى سكن فيعطونه المبالغ المطلوبة، بعدها يتفق مع البائع على ثمن المنزل، وكان الأغنياء لا يردون شفاعته لعلمهم بصدقه وأمانته، وهو دائماً موفق للخير ومبارك أينما كان ومفتاح لأبواب الخير ومغلاق لأبواب الشرور، وكان في غاية الورع من الأموال التي قد تطرأ عليها شبهة، حتى ولو كانت هذه الأموال ستجلب له أموالاً طائلة، وكان يقول: إذا قبرت ماذا أواجه ربي.
 بر وسخاء
هذه رحلة محمد الصانع -رحمه الله- في عالم الاحسان والبر والسخاء، هو علم من أعلام المحسنين والله سبحانه يحب المحسنين والمتصدقين، فهو من الذين أقرضوا الله قرضاً حسناً، منفقاً في السر والعلن حمده الناس لأفعاله الحسنة، يعطي بلا منّ ولا أذى، بل بشاشة ورحابة نفس، لا يتصنع الكرم والسخاء، بل هما صفتان جبله الله عليهما. رحمه الله وغفر له وجعل مستقره في الفردوس الأعلى، توفي يوم الخميس 10 ديسمبر 2015م الموافق 27 صفر 1437هـ، وفي الختام أشكر فهد بن محمد الصانع، وأحمد بن صالح الصانع على تزويدي بالمعلومات والقصص والمواقف عن شخصيتنا وبالصور الوثائقية.
إقرأ المزيد

 
                            
                    



