جريدة الرياض - 10/31/2025 1:04:06 AM - GMT (+3 )
 
                
            
             في صمت الرمال، وبين تضاريس الصخر، وجنون التنوع تتحدث المملكة العربية السعودية بلغة التاريخ، وموطن الحضارات المتعاقبة، وشاهد حي على ولادة الإنسان، وتطور العمران، وتلاقي الثقافات.
تسعى المملكة، من خلال رؤية 2030، إلى إعادة تعريف موقعها الحضاري عالميًا كأرض زاخرة بالإرث الإنساني، والمادي والطبيعي، وقد باشرت الجهات المختصة، كمنظومة الثقافة، في خطوات نوعية للحفاظ على الآثار، وتسجيلها في قائمة التراث العالمي (اليونسكو)، لتصبح هذه المواقع رواة لقصة وطن لم ينقطع عن التاريخ.
يتربع قصر الملك عبدالعزيز في لينة شامخًا كأحد أعمدة المجد الوطني، ومعلَمًا معماريًا فريدًا يجمع بين الحصافة السياسية والبراعة المعمارية. فالقصر الذي بُني قبل قرابة التسعين عامًا لا يزال يُحاكي الماضي بلغة الحاضر، ويُجسّد روح مرحلة التوحيد والتنظيم الإداري في زمن الملك المؤسس، رحمه الله.
تبدأ قصة القصر هنا، حيث الحجارة تحفظ الحكاية، والطين يروي الإرث.
تُبنى الدولة ويُبنى معها التاريخ
لم يكن بناء قصر لينة مجرد أمر إداري، بل كان فعلًا استراتيجيًا جسّد بُعد نظر الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - الذي أمر بإنشائه عام 1354هـ/1935م بعد توحيد المملكة. ولم يكن القصر مقرًا ملكيًا فحسب، بل مركزًا لإدارة منطقة الحدود الشمالية، ومنطلقًا لممارسة الحكم وبسط السيادة في أقصى الشمال في منطقة ذات موقع جغرافي استراتيجي بين دروب التجارة والحج.
مصمك في الشمال
يُحاكي القصر في تصميمه “قصر المصمك” الشهير في الرياض، وكأنه نسخة شمالية تنطق بالمعمار النجدي الأصيل. شُيّد على مساحة قدرها 4320م²، بأربعة أبراج دائرية عند الأركان، وسور مربع يحتويه، وبوابات خشبية ضخمة تتوسط الجدران، بُنيت لتكون حصنًا وواجهة. المواد المستخدمة: طين، ولبن، وحجر، وسعف نخيل، وخشب، تكشف وفاءً للبيئة، وتُعبر عن ذكاء البناء واستدامته.
الفناء الكبير.. روح القصر
يتوسط القصر فناء مستطيل واسع تُطل عليه 52 غرفة، منها ما خُصص للإقامة الملكية، ومنها ما استُخدم لمهام الإدارة، والضيافة، وشؤون الإمارة. وفي هذا الفناء، كان يتنقل الملك عبدالعزيز وحاشيته وضيوفه، ويُعقد المجلس الكبير، وتُتخذ القرارات. يحوي القصر مسجدًا، وبئرًا عميقة، واسطبلات للخيل، وساحة للمناسبات الرسمية، مما يجعله نموذجًا للحكم المتكامل.
على درب الحجيج
تقع لينة على مفترق طرق تجارية وتاريخية. كما أن وفرة المياه في لينة جعلتها محطة مفضلة للتجار والقوافل، ولهذا لم يكن اختيار الموقع اعتباطيًا، بل مدروسًا لوجستيًا، ليصبح نقطة إشراف وعبور واستقرار في آن واحد.
من إدارة الأمس.. إلى ذاكرة اليوم
كان القصر مقرًا للملك عبدالعزيز في منطقة الحدود الشمالية، وأُديرت منه شؤون الحكم، وأصدر من داخله توجيهاته، واستقبل فيه رجالات القبائل ووجهاء المنطقة. أما اليوم، فهو موقع أثري حيّ، يربط الأجيال بماضٍ مجيد، ويقدم للزوّار صورة ملموسة عن نشأة الدولة، وآليات الحكم فيها، وعظمة رجل بنى وطنًا من الصفر.
تُصان الذاكرة لتعود الحياة
شهد القصر عام 1430هـ (2009م) عمليات ترميم شاملة نفذتها الهيئة العامة للسياحة والآثار، ثم أعيد ترميمه مؤخرًا عام 1445هـ (2024م) بأمر من أمير منطقة الحدود الشمالية الأمير فيصل بن خالد بن سلطان، الذي شكّل لجنة لمراجعة الترميم وتصحيح ملاحظاته. وهذه العناية تعكس إدراكًا رسميًا لقيمة القصر، بوصفه أحد شواهد برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري.
قصور لم تمت
قصر الملك عبدالعزيز في لينة لا ينتمي للماضي فقط، بل يقف اليوم شاهدًا على ما بُذل من جهد وما تحقق من وحدة، وعلى فكر مؤسسٍ بنى القصور لتكون محطات لحكم رشيد، ومنارات للثقافة والهوية. القصر اليوم هو مرآة لذاكرة وطن، ومتحف مفتوح يُحدثنا بلغة الحجارة والطين عن مجدٍ لن يغيب، وعن مَلِكٍ جعل من التاريخ صفحة تُكتب لا تُنسى.
إقرأ المزيد

 
                            
                    



